لماذا الانحدار الاقتصادي اليوم سيكون أسوأ من أي وقت
سابق في العقود الماضية؟
عند رجوعنا 20 عاماً للوراء و اضطلاعنا على عدة مقالات وكتب تتحدث عن الوضع
الآقتصادي والنظرة المستقبلية لتلك الفترة أبرزها
كتاب "الأيادي السود" لنجاح واكيم (الذي صدر عام 98)، نرى مشهداً
قاتماً جداً للاقتصاد اللبناني:
-
دين عام تجاوز ال20 مليار دولار و تجاوز نسبة 100% الى الناتج العام المحلي
- ارتفاع العجز السنوي لموازنة الدولة بسبب الفوائد العالية على سندات
الخزينة (في حدود ال15%) وتراكم الدين العام (بحيث تتم اعادة جدولة الدين عندما
يستحق لتستلف الدولة من جديد)
- بطالة عالية (خاصة عند الشباب) ونسبة هجرة عالية و عدد كبير من
اللبنانيين تحت خط الفقر
- حالات افلاس حدثت (وستحدث لاحقاً) مما ينبىء بوضع يزداد سوءاً مع الأيام
وممكن أن يؤدي الى كارثة اقتصادية (مشابهة لدول كثيرة حدث فيها انهيار اقتصادي
كبير وانحدار في قيمة العملة في فترة التسعينيات كتركيا مثلاً)
و لكن لم تتحقق معظم هذه التوقعات بالشكل
التشاؤمي الذي رسم وقتها - لماذا يا ترى؟
1- الTVA: أحد أهم
الأسباب التي جعلت ميزانية الدولة تحافظ على نوع من التوازن بين الايرادات
والمصاريف هي استحداث الضريبة على القيمة المضافة (الTVA)، فقد كان
لبنان من الجنات الضريبية في التسعينات، والسبب لذلك جذب أكبر قدر ممكن من الأموال
بفترة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية للمساهمة بالنهوض بالاقتصاد. وبذلك ساهم انشاء
الضريبة ال10% هذه على عدد كبير من السلع والخدمات في ايجاد مدخول لا بأس به
للدولة ابتداء من عام 2001 لم يكن موجوداً بتاتاً من قبل، كما تم استحداث ضرائب
أخرى على قطاعات مختلفة أهمها الجمارك على السيارات المستوردة - لن نخوض في ذكرها
الآن - ساهمت بمداخيل أخرى للدولة
2- ثورة قطاع
الاتصالات: ساهمت ثورة قطاع الاتصالات اللاسلكية والانترنت بدءاً من أواخر
التسعينيات وتوسعها الضخم لاحقاً في الأعوام اللاحقة في انشاء فرص عمل جديدة
وبمداخيل عالية نسبياً لم تكن متوفرة من قبل، كما استطاعت الدولة أن تجني المزيد
من المداخيل مع توسع مستخدمي القطاع اللاسلكي والرقمي بكل مكوناته
3- سعر برميل
النفط: وصل سعر برميل النفط الى أقل من 9$ في العام 1998 و قد كان قد وصل الى أكثر
من 35$ في العام 1979! أي أن أسعار النفط كانت قد أكملت فترة حوالي 20 سنة من
التراجع والانحدار ويعلم متابعي هذه الصفحة ما يعني هذا الموضوع بالنسبة للبنان
(تأثير سعر برميل النفط) فقد كنا شرحنا عنه سابقاً مراراً، فأي فورة بسيطة في
النفط كان سيكون لها تأثير ايجابي على اقتصادنا - وهو شيء كان احتمال حدوثه عالي
من هذه الأسعار المتدنية خاصة بعد فترة ركود طويلة جداً كالتي سبق حصولها.
4- حالات الافلاس
(وشبه الافلاس) التي حدثت: نورد هنا هذه الأمثلة عن تلك الحالات لنبين أن الطريق
لم تكن سهلة نحو النمو المضطرد الذي حدث لاحقاً، بل أن حالات افلاس لمؤسسات وشركات
كبيرة حدثت وبينت حجم الركود الاقتصادي الذي حدث في تلك الفترة، ونذكر منها على
سبيل المثال لا الحصر: البنك اللبناني للتجارة سنة 98 (شبه افلاس - قبل وضع مصرف
لبنان يده عليه)، تعاونيات لبنان الاستهلاكية سنة 99، طيران الشرق الأوسط (MEA) سنة 2001 (شبه
افلاس - قبل انقاذ مصرف لبنان الأمر في اللحظة الأخيرة)، بنك المدينة سنة 2003
5- مؤتمري باريس2
(2001) وباريس3 (2002): كان الوضع الاقتصادي العالمي في تلك الفترة يسمح بأن يقدّم
عدد من الدول قروض ميسّرة وهبات حيث لم تكن هذه الدول تعاني من أزمات داخلية
ومالية خاصة بها، وطبعاً ساهمت هذه القروض في التخفيف من حدة التدهور الاقتصادي
وقتها (قبل النمو اللاحق)
6- انخفاض الفوائد
على سندات الخزينة: وتالياً على الدين العام، وحدث ذلك بعد ازدياد رؤوس الأموال
الداخلة على القطاع المصرفي اللبناني خاصة بعد ازدياد أسعار النفط المضطرد بين عامي
2003 و 2008
7- عقارياً: أما
بالنسبة لسوق العقارات في ذلك الوقت، فما هو الانحدار الذي حدث وما العوامل
المباشرة التي ساهمت في كبح جماحه (بالاضافة الى العوامل الماكرو-اقتصادية التي
ذكرناها في الأعلى):
أ- أولاً انخفضت
أسعار الشقق والعقارات بنسب وصلت الى 25-30% من أسعار الفورة التي وصلتها في عامي
94-95، وكان هذا الانخفاض طبيعياً في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي مر فيه البلد
وقتها، وحدث هذا الانخفاض بمعظمه في العمليات الحاصلة على الأرض وليس في الأسعار
المعلنة (التي لم تشهد انخفاضاً ملحوظاً)، أما الذي أصر على السعر العالي ولم يبع
فقد استطاع (على الأرجح) أن يعود ويبيع عليه بعد حوالي 7 سنين. وبغض النظر اذا كان
خسر بطريقة غير مباشرة نتيجة انتظاره طوال هذه المدة فقد استطاع السعر أن يعود
لمستوياته السابقة للأسباب التي ذكرناها سابقاً وسنذكرها الآن
ب- انشاء مؤسسة
الاسكان: انشأت هذه المؤسسة في العام 99 وأعطت أول قرض بعد حوالي سنتين وفتحت
مروحة التملك عن طريق القروض المدعومة أمام عدد كبير من اللبنانيين وخاصة موظفي
القطاع الخاص - حيث كان موظفو القطاع العام يحظون بقروض بفوائد ميسرة منذ أوائل
الثمانينات ولكن لم ينطبق هذا الأمر على غير موظفي الدولة. فساهم هذا الأمر من غير
شك على ايجاد أرضية لأسعار العقارات انطلقت منها الى فورة كبيرة في الأعوام
اللاحقة
ج- القروض
المدعومة من مصرف لبنان: تدخل مصرف لبنان للمرة الأولى منذ انشائه في القروض
العقارية لعامة الناس لدعمها من ناحية الفوائد أولا ومن ناحية تسهيل شروط القرض
ثانياً - فالمرجح كان أن لا يعطي مصرفاً ما شخصاً عادياً قرضاً من هذا النوع قد
يصل لمئات ألوف الدولارات من غير أن يكون مصرف لبنان موقع هذا القرض مع المقترض
نفسه ليتشجع المصرف على القيام بالاقراض من غير هواجس
د- انخفاض الفوائد
على سندات الخزينة (كما ذكرنا سابقاً) أدى أيضاً الى انخفاض الفوائد المدعومة وهو
ما فتح باب الشراء أمام شريحة أكبر من الناس في نفس الوقت
ونعود الآن الى
يومنا هذا، وتحديداً في توقعاتنا المعروفة لمستقبل سوق العقارات في الأعوام
المقبلة في لبنان، فهل من عوامل مماثلة كالتي حصلت سابقاً لتنقذ القطاع من
الانحدار في الأسعار؟
أي استحداث لضرائب
جديدة أو زيادة في الضرائب الحالية سيضيق الخناق أكثر على نمو الآقتصاد، كما أنه
لمن المستبعد أن تحصل ثورة جديدة مماثلة في قطاع تكنولوجي كالذي حدث في عالم
الاتصالات في العقدين الماضيين لترفد جيوب الناس والدولة بمدخول جديد. أما بالنسبة
لأسعار النفط، فلن ندخل في تحليل لاتجاه الأسعار وتأثير دخول النفط الصخري على
أسعار النفط ومشتقاته، ولكن نستطيع القول أن الفورة في الأسعار التي حصلت مؤخراً
وانتهت ابتداء من عام 2014، وصلت لأرقام (خاصة عامي 2008 و 2012) سيكون من شبه
المستحيل الوصول الى أي رقم قريب منها في الأعوام المقبلة. كما أن حصول مؤتمرات
جديدة لدول لتقوم بدعم لبنان (عن طريق هبات وقروض) سيكون من الصعب جداً في ظل
الظروف المالية الداخلية لهذه الدول التي سبق أن دعمت لبنان في المؤتمرات السابقة.
وأخيراً، لن يستطع لبنان في ظل الظروف التي ذكرناها أن يقترض بفوائد أدنى كدول
أوروبا (مثل 1 و 2%) للظروف التي ذكرناها سابقاً - خاصة مع الحديث عن سلسلة رتب
ورواتب جديدة ستثقل ميزانية الدولة وتأثيرها - ان حصلت بالشكل الذي يتأملونه -
سيكون محدود جداً على الحركة الاقتصادية (والعقارات تحديداً) بسبب شمولها موظفي
القطاع العام حصراً اضافة الى التوقعات بحدوث غلاء في أسعار المنتجات الاستهلاكية
حالما حدوثها.
(كاتب المقال صديق للصفحة)